شمس الشموس
  لا يصل المرء إلى مقصده
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يصل المرء إلى مقصده ويبقى مكانه



دستور يا سيدي مدد

كل طريقة من الطرق الصوفية العلية جامعة لصفات الرأفة واليقين والقربى والتقبل والشريعة هي واسطة نقل (كالطائرة أو السيارة أو الدابة) وواسطة النقل بحاجة إلى طريقة تسير عليها وإلا فما نفعها ؟

والحمد لله جل وعلا أدّب حبيبه وعلمه وجعل له نظام للحياة الدنيا وشرّع له الشرائع لتكون وسائط له ولأمته لعوالم الحق، حيث أنه بدون الشرائع التي نظمها الله لحياة الإنسان ومن دون التقيد بشروطها كتقيد الإنسان بشروط ركوب الطائرة، لا يصل المرء إلى مقصده ويبقى مكانه، وإذا بقيت مكانك فمعناه اتباعك للهوى وللشيطان وللنفس وللدنيا. وكذلك فإن اتباع الشيطان له واسطة نقل وطريقة يوصلك به إلى المهالك. قال تعالى )ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين( (الأنعام، 142) )قد خاب من دساها(  (الشمس، 10) وقال أيضاً )…الذي يصلى النار الكبرى( (الأعلى، 12).

وواسطة النقل شريعة النبي  rأيضاً لها طريقة، وهي تمشي بالإنسان على حساب مقامه إلى أن يصل بالنتيجة إلى الله عز وجل. )قد أفلح من زكاها( (الشمس، 9) )قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلّى( (الأعلى، 14-15)

ونرى بأن حضرة النبي r بدأ بتسليك الصحابة بواسطة نقل الشريعة حتى يكون نتيجة ذاك الجهاد )والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا( (العنكبوت، 69).

فلكل إنسان واسطة نقل حسب مقامه ومجاهدته فمنهم ومن يصل إلى مقصده بسرعة الصاروخ ومنهم كمن يركب الطائرات وآخرين كمن يستعمل السيارات أو من يركب الدواب.

وكل الطرق توصلك إلى حضرة الله تعالى كأشعة الشمس التي تصل إلى الأرض كلها لها طرق ضوئية نورانية أساسها ومصدرها الشمس، فمن يستطيع أن يمشي على الطريق النوراني يصل إلى الشمس وهكذا من يجاهد في الشريعة يلبسه الله جل وعلا جسماً ربانياً يستطيع أن يسلك به في سبل الحق )لنهدينهم سبلنا(. ومقال ذلك لو أن أهل بلد ما، يوجد في آخر بلدهم بحر وجبل وأرادوا أن يقصدوا الجبل وهو مغطى بالثلوج عليهم أن يرتدوا لباساً يناسب الثلج، أي يتهيئوا لمقصدهم بما يناسب سلوكهم وطريقتهم.

وهذا تمثيل الشريعة والطريقة فهي السبيل إلى الله وبدون سبيل وطريق هل توصلك واسطة النقل إلى مقصدك ؟

ولهذا فإن أهل الشريعة عندما امتنعوا عن سلوك الطريقة بدأوا يخففوا من لباسهم وأحمالهم وتكاليفهم، وقالوا هذا بدعة وهذا كفر وكثير من الادعاءات الباطلة. خففوا عنهم أحمال اعتبروها بدعة وهي في الحقيقة إيمان ومحبة لا بد منها وطريقة توصل إلى مرضاة الله تعالى. هم ارتدوا الثياب ولم يسلكوا وأنت لا تعرف حاجة وجودة الثياب إلا في مكانها. فكلما ارتفعت في الجبل كلما احتجت إلى ثياب صوفية أكثر وإلى نار للتدفئة، وهذه أحمال الشريعة، فكل مقام تكليف. وقول الرسول r في أول الوحي (زملوني..زملوني) (دثروني..دثروني) إشارة إلى ذلك. حتى امتدحه الله بقوله تعالى )يا أيها المزمل ((المزمل، 1)  )يا أيها المدثر( (المدثر، 1) ويحتاج السير في سبل الله إلى العزيمة والهمم العالية وإلى قيام الليل والإكثار من النوافل.

ومن يقصد ربه عليه أن يعمل بالعلم الذي يقبله ربه، وهذا حضرة النبي r  قد اجتهد واجتهد مع أنه خاتم الأنبياء والمرسلين وهو مكسو من الله كل حلل الصفات والأسماء، وتحمل باجتهاده عن أمته وهو منذ ولادته يقول أمتي أمتي إلى ارتحاله إلى الرفيق الأعلى وإلى يوم الحشر والميزان ودخوله إلى الجنة، ومع ذلك فهو يحث على العمل واتباع قوانين سبل الحق كما ورد عن النبي r  والخلفاء الراشدين والأئمة الأربعة والورثة المحمديين بالمجاهدة بعزيمة الشريعة ويهيئ وارثاً لقيادة الملأ الذين ركبوا من بعده في واسطة نقل الشريعة ليكون لهم دليلاً إلى الله وسائقاً خبيراً في وعورة الطريق ليصل بهم إلى بر الأمان. ولذا يقول رب العزة )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين( (التوبة، 119) ولولا الحاجة لوجود صادق، لما أبقاهم الله إلى يوم القيامة، ولما أورد في حقهم الآية التي يصف فيها (الصادقين) بأنهم )رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً( (الأحزاب، 23).

ونحن الآن في عصر الفساد ولولا وجود أولئك الصادقين لاكتفى الله بقوله (قضوا نحبهم) مثلاً.

وأما قوله تعالى (وما بدلوا تبديلاً) لأن من يبدل عهوده مع الله لا يصلح لأن يكون سائق. وقد عهد الله لكل نفس أن يكون معها سائق وشهيد. والسائق هو (صادق) يسوقك إلى مبتغاك ومقصدك حيث أن الأولياء والصادقين مبتغاهم (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي).

ويكون مع السائق شهيد هو رسول الله r  يشهد على إخلاصك في سلوكك إلى حضرة الحق عز وجل.

والسائق قد يكون شيطان لمن اختار أن يكون في مركبته ومعه شهيد كذلك من أضرابه.

وفي كل الأحوال فإن أي طريق يختاره الإنسان له سائق فأما أن يكون حضرة النبي r  أصالة الذي أمرنا به الله أن نكون معه أو وكالة ولي صادق مرشد. )من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ((الكهف، 17) وإما أن يكون الشيطان حتى تصل بالنهاية إلى مبتغاك رضوان الله أو سخطه.

قال تعالى : )وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا( (الجن، 16)  

وهذا سيدنا موسى عليه السلام يسأل الله هل هناك من هو أعلم منه في عصره، مع أنه مظهر لمقام الشرائع الربانية من عهد سيدنا آدم إلى حضرة النبي r. حيث أن سيدنا عيسى لم يأتي بالشرائع بل قال : ) ومصدقاً لما بين يديه من التوراة ((الصف، 6)، فيجيبه حضرة الحق جل وعلا تعليماً لأمة النبي r  وللعباد أجمع، هناك من هو أعلم منك. وأرسل له (عبداً) من عباده. قال تعالى )فوجد عبداً من عبادنا( (الكهف، 65) وأبقى بقية أولئك العباد الصالحين في عالم الغيب عنده يرسلهم كأولياء صادقين وورثة محمديين لخدمة أمة الحبيب r  في آخر الزمان. حيث أن حضرة النبي r  هو خاتم الأنبياء والمرسلين وقد أمرنا الله تعالى بقوله )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين( (التوبة، 119) ووصف الله تعالى الصادقين بأنهم )رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ((النور، 37) لقد أرسل الله إلى موسى واحداً من أولئك العباد ليرى منه العجب العجاب، على الرغم من كل ما وهبه الله من معجزات بالغات باهرات. إذ أن سيدنا موسى قهر أقوى وأعتى قوة في ذلك الوقت (فرعون وجنوده) بعصا. ولم يستعمل طائرات ولا دبابات ولا غيرها فقط عصا ضرب بها البحر فانشق له إثنا عشر طريق ليمر بها بنو إسرائيل وبهذه العصا ضرب على الحجر ليشرب بنو إسرائيل.

وإذا سيدنا موسى وُهِبَ ذلك بتلك العصا فكم وكم من المعجزات أعطيت لسيدنا محمد r. والله قادر مقتدر ونحن عباد مخلوقين.

فكيف نستطيع أن نحيط بالخالق ؟ أو بمعنى قدرة الله ؟

ولما طلب سيدنا موسى ملاقاة ذلك العبد الصالح فُتح له طريق السلوك لملاقاة ذلك العبد وجعلت له رموز للسير في ذلك الطريق )وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين. ( (الكهف، 60) وأوجبه الله بتلك الآيات البينات من استعمال واسطة النقل الرباني ليمشي بتلك الطريق الموصلة لملاقاة ذلك العبد لا أن يقف مكانه وينتظر ليراه، بل مشى وسلك بطريق (مجمع البحرين) أي وإن كان على المعنى الظاهر للآية ملتقى البحرين إنما هو في الحقيقة البحر التشريعي والصفة التنفيذية للحق، بحر الصفات وبحر الأسماء للحق بحر الإرادة وبحر المشيئة. قال سيدنا موسى )…أو أمضي حقباً ( أي أن علو الهمة لا يكفي للوصول إلى ملتقى البحرين بل يمضي حقباً بالسير إلى مقامات الغيوب للحق حيث أن الله علام الغيوب وكل غيب عند الله يغيب كل ما دونه من غيوب فيه فكم يوجد من غيوب للحق تعالى حيث )وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو(.(الأنعام، 59)

تلك الحقب لسيدنا موسى ولغير سيدنا موسى أحقاب أيضاً.

وبتلك الحكمة أرسل ذلك العبد الصالح وبقية أولئك العباد ترسل تترى من غيوب الحق لكل على حسب مقامه لملتقى تلك البحور. (أما إرادة الله ومشيئته وأما صفات الله وأسماؤه) وأما (شريعة وحقيقة) كل على حسب مقام الطالب وهمته.

قال تعالى : )ولكل مقام معلوم(. أولئك العباد الصالحون يأتون من عالم الغيب بينها الصفة التشريعية (السالك بالشريعة) قاصدة لتلك البحور وربما لا تكتفي بل تمضي حقباً وسيدنا موسى ومع أن صفته كليم الله فقد أحوجه رب العزة لسلوك تلك الطريق ليلتقي بمن يأتي من وراء الغيوب ومن هنا نرى عظمة ورفعة مقام القادمين من عند الله والقادمين للاجتماع معهم والرب جل وعلا ناظراً عليهم ومن عظمة ذلك المقام والطريق التي سلكها سيدنا موسى أرهقه التعب ومعنى ذلك أن العمل بالصفة التشريعية وقبل أن يُكسى بالقوة الملكوتية يرهق الجسد. كما أشار الله عز وجل )طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ((طه، 1-2).

ولهذا يشير النبي r  بقوله لمن أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على الطريق (فلينظر إلى أبي بكر الصديق) دليلاً على الاجتهاد بالشريعة ليكمل سيره على تلك الطريق الموصلة إلى الله تعالى وقد أحوج ربنا حبيبه r  إلى الخلوات في أيام معدودات في (غار حراء) لعشرين عاماً أو أكثر. فكان يختلي بها لتفنى قواه الجسمانية في قواه الروحانية والمعنوية لتكتمل فيه مظاهر بحور الوحدانية للحق تعالى وأرجأ هجرة الصديق ليكون صاحبه في الغار (غار ثور) وليكمل له خلوة ورياضة روحانية في طريق الحق ليوصله إلى البقاء في الله بعد الفناء فيه ليتحقق (بمعية الله) وذلك بعد نزول الآية )لا تحزن إن الله معنا ((التوبة، 40).

وانطلق سيدنا أبو بكر الصديق ليكون بمعية الله إلى أبد الآبدين بهمة واسطة النقل سيدنا محمد r  إمام الأولين والآخرين )فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما((الكهف، 61) أي نسيا نفسيهما من هيبة أنوار تجليات القدس في ملتقى البحرين، بحر الأسماء والصفات، بحر الشريعة والحقيقة.

وإذا كان الإنسان في طريق الضلالة وسائقه الشيطان فمن شهوة الحرام ينسى طريق الحق.

قال تعالى : )قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (

)نسوا الله فأنساهم أنفسهم ((الحشر، 19)

)نسوا الله فنسيهم ((التوبة، 67)

فإذا كنت في طريق المجاهدة بالشريعة الغراء تنسى الحال الذي أنت فيه وتشتغل بمقام الكرامة حتى تُنبه من القرآن أو الإلهام أو الرؤية الصالحة وإذا كنت في طريق الشيطان تجعلك نفسك في أسفل السافلين.

وفي طريق الحق ومع ذلك السائق تصل إلى أعلى عليين إلى ملتقى البحرين (الأسماء والصفات) حيث جعل الله في ذلك المقام مسربا لنفس بني آدم. وعندما يصل العبد إلى تلك النقطة يدركه الموت وبهمة السائق الماهرة في السالك فإنه يحافظ على تآلف النفس والروح فتنشأ قابلية المحافظة على آثار الحق والسنة السنية بهدي النبي r  في المسالك والطرق بحيث يجعل سد منيع فلا يتسرب أي شيء من القوة النفسانية أو الروحانية. ويكمل السالك بالشريعة المحمدية وعزيمتها (الطريقة) بواسطة ذلك الصادق ليتحقق بمقام البقاء بعد الفناء وبعد الإرهاق والنصب والموت الاختياري يحصّل مقام (موتوا قبل أن تموتوا) ويكون شاهداً عليه الله ورسوله (كل نفس معها سائق وشهيد).

وهناك يغذى بالغذاء الرباني دون الحاجة للغذاء الدنيوي المتعلق بعالم المادة والأسباب. )فلما جاوزاه قال لفتاه ((الكهف، 62)  مع كل مقامات سيدنا موسى وتحليه بالصفات الربانية، أصاب جسمه (نصباً) )قال أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة((الكهف، 63) وهذه إشارة إلى أنه عندما يركن السالك في طريقه ولو طرفة عين إلى مقام النفس يصفه الله )قال أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة(. ووصف النفس بالصخرة، نشوء ذلك الحال.

فالركون إلى النفس يورث النسيان واحتراماً لسيدنا موسى حيث هو في مقام الواسطة النقلية يقول فتاه )إني نسيت الحوت ((الكهف، 63)  والملاحظ لأول الآية فإن الكلام ورد بصفة المثنى تشريعاً وتكريماً واحتراماً للمعلم والدليل المرشد. وعندما نسي نسب الفتى أو المريد ذلك الحال له، ولم يقل (إننا نسينا)، بل قال (إني نسيت الحوت) ولم ينسب النقص لسيدنا موسى. وهذا تعليم وتأديب للمؤمنين الذين أمروا أن يمشوا بمعية الصادق وأن لا ينسبوا إلى الدليل إلا الشيء الكامل. قال تعالى : )واتخذ سبيله في البحر عجباً( (الكهف، 63)

ولذا فإن كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء لا شيء عند الله، وأما عند الناس أو عند السالكين فإنها خارقة للعادة وعجب. وإن دخول الروح والنفس بتربية الصادقين لذاك البحر الخضم وإحيائها من عند الله بحق الحياة والحياة الأبدية لإكمال السلوك والمشي على الطريق الموصل إلى تلك الحقب الغيبية شيء عجب للعلماء والمسلمين وغير المسلمين.

وأما عند الله وعند السائق فإنها (سرباً) ولا شيء غير عادي لأن الإنسان محكوم بالموت الاضطراري أو الاختياري. بالموت الاضطراري تدفن وأما بالموت الاختياري تحيا وتكمل سيرك بالأحقاب والمقامات لتصل للكمال. وبعد الوصول للكمال أي إلى حضرة الله وحضرة النبي r  تعاد إلى ملتقى البحرين بأمر الله تعالى : )قال ذلك ما كنا نبغي(.(الكهف، 64)  وهناك تسبح في بحور الحق دون أن تنزل عن المقام الذي وصلت إليه. كلها آيات بينات والجميع غافل عنها.

ونرى أن بعد الإعادة إلى المصدر (ملتقى البحرين) لم يلزم لهما بعدها طعام عادي مادي لأنهما يطعمان طعاماً ربانياً، رحمانياً، ملكوتياً عائدا إلى عوالم الحق )كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عنها رزقاً (آل عمران، 37) (.

كيف يُطعَموا وبمن يُطعَموا ؟ بواسطة ذلك العبد الصادق )فوجدا عبداً من عبادنا( ليطعم سيدنا موسى من بحور الرحمة والعلم اللدني الذي لم يستطع سيدنا موسى تحمله.

وهذا بكل تواضع أدنى تعبير عن تعريف الطريق التي لا تستطيع ألسنة خدام أعتاب السائقين والورثة المحمديين أن تنزل عنها وما فوق ذلك الله ورسوله r أعلم.

 

 
  3001656 visitors