شمس الشموس
  مولانا خالد البغدادي
 

بسم الله الرحمان الرحيم

مولانا خالد البغدادي النقشبندي


مولانا الشيخ خالد أبو البهاء ضياء الدين النقشبندي ،العالم العلامة،  والعلم الفهامة، مالك أزمة المنطوق والمفهوم، ذو اليد الطولى في العلوم، من صرف ونحو وفقه ومنطق ووضع وعروض ومناظرة وبلاغة وبديع وحكمة وكلام وأصول وحساب، وهندسة واصطرلاب، وهيئة وحديث وتصوف، العارف المسلك مربي المريدين، ومرشد السالكين، ومحط رجال الوافدين، وأمه ينتهي نسبها إلى الولي الكامل الفاطمي بير خضر المعروف النسب والحال بين الأكراد قدس سره.

ولد رضي الله عنه سنة ألف ومائة وتسعين تقريباً بقصبة قره داغ من أكبر سناجق بابان، وهي عن السليمانية نحو خمسة أميال تشتمل على مدارس، وتكتنفها الحدائق، وتنبع فيها عيون عذبة السلسال، ونشأ فيها وقرأ ببعض مدارسها القرآن، والمحرر للإمام الرافعي في فقه الشافعية، ومتن الزنجاني في الصرف وشيئاً من النحو، وبرع في النثر والنظم قبل بلوغ الحلم، مع تدريب لنفسه على الزهد والجوع والسهر والعفة التجريد والانقطاع على أقدم أهل الصفة.

ثم رحل لطلب العلم إلى النواحي الشاسعة، وقرأ فيها كثيراً من العلوم النافعة، ورجع إلى نواحي وطنه، فقرأ فيها على العالم العامل، والنحرير الفاضل، ذي الأخلاق الحميدة، والمناقب السديدة، السيد الشيخ عبد الكريم البرزنجي رحمه الله تعالى، وعلى العالم المحقق الملا محمد صالح، وعلى العالم المحقق الملا إبراهيم البياري، والعالم المدقق السيد الشيخ عبد الرحيم البرزنجي أخي الشيخ عبد الكريم، والعالم الفاضل الشيخ عبد الله الخرباني.

ثم رحل إلى نواحي كوى وحرير، وقرأ شرح الجلال على تهذيب المنطق بحواشيه على العالم الذكي، والنحرير الألمعي، الملا عبد الرحيم الزيادي المعروف بملا زاده. وأخذ في تلك النواحي غير ذلك عن غيره فعاد إلى قصبة كوى، للأخذ عن العالم العامل، الورع الكامل، ذي الفضل الجلي، الملا عبد الرحمن الجلي، رحمه الله تعالى، فصادفه مريضاً مرضه الذي توفي فيه.

ورجع إلى السليمانية ثانياً فقرأ فيها وفي نواحيها الشمسية والمطول والحكمة والكلام وغير ذلك، وقدم بغداد وقرأ فيها مختصر المنتهى في الأصول، ورجع إلى محله المأهول، وحيث حل من المدارس، كان فيها الأتقى الأورع السابق في ميادين التحقيق كل فارس، لا يسأل عن مسئلة من العلوم الرسمية إلا ويجيب بأحسن جواب، ولا يمتحن بغويصة من تحفة ابن حجر أو تفسير البيضاوي إلا ويكشف عن وجوه خرائد الفوائد النقاب، وهو يستفيد ويفيد، ويقرر ويحرر فيجيد، إلى إنصاف وذكاء خارق، وقوة حافظة بذهن حاذق، ومهما دقق في درسه على ما يريد، يعز أساتذته عن إرضاء ذهنه القائل لسان حاله هل من مزيد، وطال ما ألقى السؤال، واستشكل الإشكال، فلم يكن المجيب إلا هو بأبدع منوال، هذا مع تصاغره لدى الأساتذة والأقران، وتجاهله عن كثير من المسائل مع العرفان، حتى أنه يقرأ من الكتب الصعبة ما لم يصل إذ ذاك إلى قراءته، بتحقيق يتحير فيه أهل مادته، فاشتهر خارق علمه، وطار إلى الأقطار صيت تقواه وذكائه وفهمه، إلى أن رغب بعض الأمراء في نصبه مدرساً قبل التكميل في إحدى المدارس، وأن يوظف له وظائف ويخصه بالنفائس، فلم يجبه إلى هذا المرام، زهداً فيما لديه من الحطام، قائلاً إني الآن لست من أهل هذا المقام،

فرحل بعدها إلى سندج ونواحيها وقرأ فيها العلوم الحسابية والهندسية، والاصطرلابية والفلكية، على العالم المدقق جغميني عصره، وقوشجي مصره، من في إشارته شفاء كل داء، ونجاة كل عليل بالجهل سقيم، الشيخ محمد قسيم النندجي، وكمل عليه المادة، على العادة، فرجع إلى وطنه قاضي الأوطار، وصيته إلى أقصى الأقطار طار، فولي بعد الطاعون الواقع في السليمانية عام ألف ومائتين وثلاثة عشر تدريس مدرسة أجل أشياخه المتوفين بالطاعون المذكور السيد عبد الكريم البرزنجي، فشرع يدرس في العلوم، وينشر المنطوق منها والمفهوم، غير راكن إلى الدنيا ولا إلى أهلها، مقبلاً على الله تعالى متبتلاً إليه بأصناف العبادات فرضها ونفلها، لا يتردد إلى الحكام، ولا يحابي أحداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الأحكام، لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو نافذ الكلمة محمود السيرة يأخذ بالعزائمن حتى صار محسود صنفه، عزيزاً في وصفه، مع الصبر
على الفقر والقناعة، واستغراق الأوقات بالإفادة والطاعة،" اهـ


"إلى أن جذبه سنة ألف ومائتين وعشرين شوق الحج إلى بيت الله الحرام، وتوق زيارة روضة خير الأنام، عليه الصلاة والسلام، فتجرد عن العلائق، وخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله الصادق، فرحل هذه الرحلة الحجازية من طريق الموصل وديار بكر والرها وحلب والشام، واجتمع بعلمائها الأعلام، وصحب في الشام ذهاباً وإياباً العالم الهمام، شيخ القديم والحديث، ومدرس دار الحديث، الشيخ محمد الكزبري رحمه الله تعالى وسمع منه وأخذ عليه، فقربه وقر به عيناً وفاز بما لديه من علو الإسناد، وإجازات المسلسلة الجليلة المفاد، وصحب تلميذه كذلك الأخص الأصفى الشيخ مصطفى الكردي متع الله الطلاب بطول حياته، فأجازه لشيخه بأشياء، منها الطريقة العلية القادرية، فخرج منها على جادة العزائم بأحسن قدم، يطعم ولا يطعم، فوصل المدينة المنورة، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم بقصائد فارسية بليغة محررة، ومكث فيها قدر ما يمكث الحاج، وصار حمامة ذلك المسجد الوهاج،

قال وكنت أفتش على أحد من الصالحين، لأتبرك ببعض نصائحه لعلي أعمل بها كل حين، فلقيت
شيخاً يمنياً متربضا، عالماً عاملاً صاحب استقامة وارتضا، فاستنصحته استنصاح الجاهل المقصر، من العالم المستبصر، فنصحني بأمور، منها: لا تبادر بالإنكار في مكة على ما ترى ظاهره يخالف الشريعة، فلما وصلت إلى الحرم المكي الشريف وأنا مصمم على العمل بتلك النصيحة البديعة، بكرت يوم الجمعة إلى الحرم، لأكون كمن قدم بدنة من النعم، فجلست إلى الكعبة الشريفة أقرأ الدلائل، إذ رأيت رجلاً ذا لحية سوداء عليه زي العوام قد أسند ظهره إلى الشاذروان ووجهه إلي من غير حائل، فحدثتني نفسي أن هذا الرجل لا يتأدب مع الكعبة، ولم أظهر عتبه، فقال لي يا هذا ما عرفت أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة فلماذا تعترض على استدباري الكعبة وتوجهي إليك، أما سمعت نصيحة من في المدينة وأكد عليك، فلم أشك في أنه من أكابر الأولياء، وقد تستر بأمثال هذه الأطوار عن الخلق، فانكببت على يديه وسألته العفو وأن يأمرني بدلالته على الحق، فقال لي فتوحك لا يكون في هذه الديار، وأشار بيده إلى الديار الهندية، وقال تأتيك إشارة من هناك فيكون فتوحك في هاتيك الأقطار، فأيست من تحصيل شيخ في الحرمين يرشدني إلى المرام، ورجعت بعد قضاء المناسك إلى الشام، انتهى.

فاجتمع ثانياً بعلمائها، وحل في قلوبهم محل سويدائها، فأتى إلى وطنه بعد قضاء وطره بالبركات، وباشر تدريسه بزيادة على زهده الأول وعدة الحسنات الأول سيئات، مستقيماً على أحسن الأحوال، متشوقاً إلى مرشد يسلك عنده طريق فحول الرجال، إلى أن أتى السليمانية شخص هندي من مريدي شيخه الآتي وصفه، فاجتمع به وأظهر احتراقه واشتياقه لمرشد كامل يسعفه، فقال الهندي إن لي شيخاً كاملا، مرشداً عالماً عاملاً، عارفاً بمنازل السائرين إلى ملك الملوك، خبيراً بدقائق الإرشاد والسلوك، نقشبندي الطريقة، محمدي الأخلاق علماً في علم الحقيقة، فسر معي حتى نسعى إلى خدمته في جهان أباد، وقد سمعت إشارة بوصول مثلك هناك إلى المراد، فانتقش القول في قلبه، وأخذ بمجامع لبه، وعزم على المسير بالتجريد تاركاً منصب التدريس والوظائف،

فرحل سنة ألف ومائتين وأربع وعشرين الرحلة الأخرى الهندية من طريق الري، يطوي بأيدي العيس بساط البيداء أسرع طي، فوصل طهران، وبعض بلاد إيران، والتقى مع مجتهدهم المتضلع بضبط المتون والشروح والحواشي، إسماعيل الكاشي، فجرى بينهما البحث الطويل، بمحضر من جمهور طلبة إسماعيل، فأفحمه إفحاماً أسكته، وأنطق طلبته، بأن ليس لنا من دليل، وقد أشار إلى هذه الواقعة في قصيدته العربية، متخلصاً لمدح شيخه الآتية أوصافه العذبية، ثم دخل بسطام وخرقان وسمنان ونيسابور، وزار إمام الطريق البحر الطامي، الشيخ أبا يزيد البسطامي، قدس سره، ومدحه بمنظومة فارسية، وزار في تلك البلاد، من الأولياء الأمجاد، حتى وصل طوس، وزار بها مشهد السيد الجليل المأنوس، نور حدقة البتول والمرتضى، الإمام علي الرضا، ومدحه بقصيدة غراء فارسية، أذعن لها الشعراء الطوسية ولظهور البدع فيها عجل الارتحال والقيام، إلى تربة شيخ مشايخ الجام، شيخ الإسلام، الشيخ أحمد النامقي الجامقي، فزاره ومدحه بمقطوعة فارسية بديعة فدخل بعدها بلدة هراة من بلاد الأفغان، واجتمع مع علمائها بالجامع فجاوره في ميدان الامتحان، فوجدوه بحراً لا ساحل له، وأقر كل منهم بالفضل له، فانثنى يحل لهم ما أشكل عليهم من المسائل بأبلغ مقال، ولما رحل عنهم ودعوه بمسير أميال، لما شاهدوه فيه من بديع الحال، فسار في مفاوز يضل فيها القطا، ويخفق قلب الأسد مخافة خوارج الأفغان المقتحمين مهالك السطا، حتى وصل قندهار وكابل، فاجتمع بجمع غفير من علماء البلد المذكور وامتحنوه بمسائل، من علم الكلام وغيره فرأوه فيها كالسيل الهائل، والغيث الهاطل، " اهـ


"ثم رحل إلى بلد لاهور فسار منها حتى وصل إلى قصبة فيها العالم النحرير، والولي الكبير، أخو شيخه في الطريقة والإنابة إلى مولاه، الشيخ المعمر المولى ثناء الله النقشبندي، فطلب منه الإمداد بالدعاء، قال فبت في تلك القصبة ليلة فرأيته في واقعة أنه قد جذبني من خدي بأسنانه المباركة يجرني إليه وأنا لا أنجر، فلما أصبحت ولقيته قال لي من غير أن أقص عليه الرؤيا سر على بركة الله تعالى إلى خدمة أخينا وسيدنا الشيخ عبد الله مشيراً إلى أن فتوحي سيكون عند الشيخ المقصود، وهناك تؤخذ المواثيق والعهود، وتنجز الوعود، فعرفت أنه قد أعمل همته الباطنية العلية ليجذبني إليه، فلم يتيسر لقوة جاذبة شيخي المحول فتحي عليه،

فرحلت من تلك القصبة أقطع الأنجاد والوهاد، إلى أن وصلت دار السلطنة الهندية، وهي المعروفة بجهان أباد بمسير سنة كاملة، ولقد أدركتني نفحاته وإشاراته قبل وصول بنحو أربعين مرحلة، وهو أخبر قبل ذلك بعض خواص أصحابه بوفودي إلى أعتاب قبابه، وليلة دخوله على جهان أباد أنشأ قصيدته العربية الطنانة من بحر الكامل يذكر فيها وقائع السفر، ويتخلص لمدح شيخه قدس الله سره الأنور، ويستعطفه سائلاً من الله القبول، شاكراً له على الوصول، مطلعها:


كملت مسافة كعبة الآمال = حمداً لمن قد من بالإكمال
وأراح مركبي الطريح من السرى = ومن اعتوار الحط والترحال
وأزاح عني قيد حب مواطني = وعلاقة الأحباب والأموال
وهموم أمهتي وحسرة إخواتي = وغموم عم أو خبال الخال
وتشاحن الأقران في رتب العلا = وملامة الحساد والعذال
وأعاذني من فرقة أفاكة = وأجارني من أمة جهال
أعني روافض أذربيجان الألى = هم أشنع المخلوق في الأفعال
ومضلها الكاشي إسماعيل إذ = قد حار لما شاب نار جدال
سحقاً له من مدع متزخرف = بعدالة من منكر مضلال
وغلاة فرس في حديث مسند = قد بشروا بإطاعة الدجال
وشرار أهل الطوس من سموا الرضا = ونفوسهم سموا أحبة آل
وفساد قطاع الطريق بخيبر = ومن المجوس وما لهم من وال
منعوا الأذان رعاية الإسلام إذ = ضلوا وخاضوا أبحر الإضلال

"وبعد وصوله تجرد ثانياً عما عنده من حوائج السفر، وأنفق ماله كله على المستحقين ممن حضر، فأخذ الطريقة العلية النقشبندية بعمومها وخصوصها، ومفهومها ومنصوصها، على شيخ مشايخ الديار الهندية، وارث المعارف والأسر المجددية، سباح بحار التوحيد، سياح قفار التجريد، قطب الطرائق، وغوث الخلائق، ومعدن الحقائق، ومنبع الحكم والإحسان والإيقان والرقائق، العالم النحرير الفاضل، والعلم الفرد المكمل الكامل، المتجرد عما سوى مولاه، حضرة الشيخ عبد الله الدهلوي قدس سره.

واشتغل بخدمة الزاوية مع الذكر والمجاهدة، فلم يمض عليه نحو خمسة أشهر حتى صار من أهل الحضور والمشاهدة، وبشره شيخه ببشارات كشفية قد تحققت بالعيان، وحل منه محل إنسان العين من الإنسان، مع كثرة تصاغره بالخدم، وكسره لدواعي النفس بالرياضات الشاقة وتكليفها خطط العدم، فلم تكمل عليه السنة حتى صار الفرد الكامل العلم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ولا غرو فإن من السالكين من وصل في لحظة، ومنهم من وصل في ساعة، ومنهم من وصل في يوم، ومنهم من وصل في اسبوع، ومنهم من وصل في شهر، ومنهم من وصل في سنة، ومنهم من وصل في سنين، كما هو مذكور في كتاب منهاج العابدين.

وشهد له شيخه عند أصحابه وفي مكاتيبه المرسولة إليه بخطه المبارك بالوصول إلى كمال الولاية، وإتمام السلوك العادي مع الرسوخ والدراية، والفناء والبقاء، الأتمين المعروفين عند الأولياء، وأجازه بالإرشاد، وخلفه الخلافة التامة في الطرائق الخمسة: النقشبندية والقادرية والسهروردية والكبروية والجشتية.

وأجاز له جميع ما يجوز له روايته من حديث وتفسير وتصوف وأحزاب وأوراد، واجتمع بإشارة من شيخه قدس سره بالعالم الفاضل، المدرس الواعظ الصوفي الكامل، صاحب التآليف النفيسة في التفسير، ورد الروافض بأبلغ تحرير، الشيخ المعمر المولى عبد العزيز الحنفي النقشبندي ابن العالم
العامل، المولى الكامل، ولي الله الحنفي النقشبندي رحمه الله تعالى. فأجاز له روايات الصحاح الستة وبعض الأحزاب، وكتب له إجازة لطيفة وصفه فيها بقوله: صاحب الهمة العلية في طلب الحق.

ثم أرسله بعد ملازمته سنة بأمر مؤكد لم يمكنه التخلف عنه إلى هذه الأقطار والبلاد ليرشد المسترشدين، ويربي السالكين، بأتقن إرشاد وشيعه بنفسه نحو أربعة أميال، ليأتي أوطانه ممتثلاً للأمر الواجب الامتثال، سائراً في طريقه براً مدة وبحراً نحو خمسين يوماً، لم يطعم طعاماً فيه ولم يشرب الماء متغذياً متروياً بالعبادة والذكر والمشاهدة والزهادة، حتى خرج من بندر مسقط إلى نواحي شيراز ويزد وأصفهان، يعلن الحق أينما كان، وكم مرة تجمع بعض الروافض لضربه وقتله، بعد عجزهم عن أجوبة أدلة عقله ونقله، فهجم عليهم بسيفه البتار، فنكصوا على أعقابهم وولوا الأدبار، ثم أتى همدان وسنندج فوصل السليمانية عام ألف ومائتين وستة وعشرين باستقبال أعيان وطنه معززاً مكرما، فقدم في تلك السنة بإشارة من شيخه مدينة الزوراء، ليزور السادة الأولياء، فنزل في زاوية الغوث الأعظم، سيدنا الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره الأقوم، وابتدأ هناك بإرشاد
الناس، على أحكم أساس، فمكث نحو خمسة أشهر ثم رجع إلى وطنه بشعار الصوفية الأكابر، مرشداً في علمي الباطن والظاهر، ولما اطردت سنة الله في الذين خلوا من قبل، أن يجعل حساداً لكل من تفرد بالفضل، وكلما كان الكمال والمحبوبية أسد، كان الإنكار والحسد أشد، هاج عليه بعض معاصريه ومواطنيه بالحسد والعداوة والبهتان، ووشوا عليه عند حاكم كردستان، بأشياء تنبو عن سماعها الآذان، وهو بريء من كلها بشهادة البداهة والعيان، فلم يقابل صنيعهم الشنيع، إلا بالدعاء لهم وحسن الصنيع، فلم تخب نارهم، وما زاد إلا شرهم وعوارهم. " اهـ

فخلاهم وشأنهم في السليمانية، ورحل إلى بغداد عام ألف ومائتين وثمانية وعشرين مرة ثانية، فألف الذي تولى كبر البهتان من المنكرين رسالة عاطلة من الصدق والصواب، ومهرها بمهور إخوانه المنكرين مشحونة بتضليل القطب المترجم وتكفيره ولم يخشوا مقت المنتقم الشديد العقاب، وأرسلها إلى والي بغداد سعيد باشا يحرضه على إهانته، وإخراجه من بغداد بسعايته، فبصره الله تعالى بدسائسهم الناشئة من الحسد والعناد، وأمر بعض العلماء بردها على وجه السداد، فانتدب له العالم النحرير، الدارج إلى رحمة الله القدير، محمد أمين أفندي مفتي الحلة سابقا، وكان مدرس المدرسة العلوية لاحقا، بتأليف رسالة طعن بأسنة أدلتها أعجازهم فولتهم الأدبار ثم لا ينصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ومهرت بمهور علماء بغداد، وأرسلت إلى المنكرين فسلقتهم بألسنة حداد، فخبت نارهم، وانطمست آثارهم، ورجع بعد هذه الأمور إلى السليمانية، محفوفاً بالكمالات الإحسانية،

وبالجملة انتفع به خلق كثيرون من الأكراد، وأهل كركوك واربل والموصل والعمادية وعينتاب وحلب والشام والمدينة المنورة ومكة المعظمة وبغداد، وهو كريم النفس حميد الأخلاق باذل الندى حامل الأذى حلو المفاكهة والمحاضرة، رقيق الحاشية والمسامرة، ثبت الجنان، بديع البيان، طلق اللسان، لا تأخذه في الله لومة لائم، يأخذ بالأحوط والعزائم، يتكفل الأرامل والأيتام، شديد الحرص على نفع الإسلام." اهـ


"وله من المؤلفات شرح لطيف على مقامات الحريري لكنه لم يكمل، وشرح على حديث جبريل جمع فيه عقائد الإسلام إلا أنه باللغة الفارسية، وأكثر شعره فارسي، وله فيه ديوان نظم بديع، ونثر يفوق أزهار الربيع، وهو الآن أعني تاريخ عام ألف ومائتين وثلاثة وثلاثين يدرس العلوم، من حديث وأصول وتصوف ورسوم، ويحيي للأولياء الرسوم، ويداوي الكلوم، ويربي السالكين على أحسن حال، وأجمل منوال، وقد مدحه أدباء عصره من مريديه وغيرهم بقصائد فارسية وعربية، ورحل إليه كثير من الأقطار الشرقية والغربية، وبابه محط رحال الأفاضل، ومخيم أهل الحاجات والمسائل، لا يشغله الخلق عن الحق، ولا الجمع عن الفرق، لا زال ظله ممدوداً، ولواء ترويج الشريعة والطريقة بوجوده معقوداً، آمين.


إن الذي قلت بعض من مناقبه = ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا


انتهى. ثم قال صاحب الحديقة سيدي محمد بن سليمان في رسالته المرقومة: ولقد حبب إلي أن أثبت هنا قصيدة نظمتها سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين في مدحه، مستندياً مستجيزاً من فيض فتحه، حتى تتخلد في الدفاتر، وتبقى من المآثر، وهي هذه برمتها.


تبدت لنا أعلام علم الهدى صدقا = فصار لشمس الدين مغربنا شرقا
وأشرق منها كل ما كان آفلاً = وأصبح نور السعد قد ملأ الأفقا
سقى الله من ماء المحبة وابلاً = قلوباً به هامت فقل كيف لا تسقى
لقد زهدوا فيما سواه فأصبحت = قلوبهم مملوءة للقا شوقا
لقد غرقوا في بحر حب إلههم = فناهيك من بحر وناهيك من غرقى
إذا ما سرت للسر أسرار شوقهم = لسيدهم زادوا لرتبته حرقا
قلوب سرت نحو الهدى بمعسكر = فعادت سهام الحب ترشقها رشقا
وجاء من التوحيد جيش عرمرم = فأفنى الذي أفنى وأبقى الذي أبقى
هم القوم لا يشقى جليسهم غداً = وهل أحد يحظى بقربهم يشقى
أبا خالد ذلت لديك عصابة = فوالاهم حباً وأدناهم وفقا
لك الله يا شمساً أضاء بنورها = من الدين ما قد كان أظلم وازرقا
سقيت قلوباً طالما شفها الظما = فأمطرتها من ماء علم الهدى ودقا
فأحييت منها كل ما كان ميتاً = ورقيت مها كل ما كان لا يرقى
وأخرجتها من كل جهل وظلمة = فمهما دجا ليل ألحت له برقا
وأدخلتها حسن التوكل مخلصاً = وأمسكتها للعز بالعروة الوثقى
شفيت بأنوار الغيوب قلوبنا = فاسمك تنشق القلوب له شقا
وقد كان سلطان الهوى متمكناً = فأوسعها ذلاً وعبدها رقا
فأعتقها من رقها بتلطف = فجوزيت من خير منحت الورى عتقا
إذا استبقت بالعارفين خيولهم = فخيلك بالتوحيد قد حازت السبقا
وإن ركبوا نحو المعارف مركباً = ركبت إليها في بحار الهوى عشقا
سموت بنور الله عن كل ناظر = فصرت ترى في الغيب ما لا ترى الزرقا
فأنت إمام العارفين ونورهم = ومنطقهم مهما أردت بهم نطقا
فعطفاً على من لا يلوذ بغيركم = بأن ترشقوه من ندى فيضكم رشقا
فأنتم كرام لا يضام نزيلكم = بجاهكم لا تمنعوا الوصل والعتقا
عليك سلام الله ما ذر شارف = وما صدحت شجواً لموكرها ورقا
وصل على المختار من آل =كما جاء بالحق الذي أظهر الحقا


"ومن خوارقه أن من جالسه ولازمه، وراعى الآداب ظاهراً وباطناً معه، انتفع من لحظه، واسترزق من رزقه المكنون في لفظه، من الأنوار والأسرار ووجد تأثير ذلك في الحال، وزهد قلبه عن حب الدنيا والجاه والمال، واستيقظ من نومه وأفاق متفكراً في المآل، وكاد أن يهجر الأهل والعيال، وهذه الخاصة لا توجد إلا عند الكمل من الرجال، فالحمد لله الذي شرفنا برؤيته، وأدخلنا في زمرته، وأسأل من رب العباد، أن يمن على المريدين بحصول المراد، إنه كريم رحيم جواد، ونعم ما قيل:


ومن بعد هذا ما تجل صفاته = وما كتمه أحظى لدي وأجمل


ثم ارتحل قدس سره من بغداد إلى الشام بأهله وعياله واستوطن دمشق، واشترى داراً رفيعة بالمحلة المشهورة بالقنوات، ووقف بعضها مسجداً لله تعالى وأقام فيه صلاة الجماعة في الأوقات الخمسة، وعمر فيها كثيراً من المساجد الخربة، وأحيا فيها كثيراً من الجوامع المندرسة، وذلك عام ثمانية وثلاثين ومائتين وألف. ولم يزل متردياً برداء الجود والكرم، ناشراً للعلم والفضائل والحكم، وامتدحه جمع من شعرائها وأدبائها بقصائد لطيفة، ومقاطيع منيفة، فمنها ما مدحه بعضهم بها في عام قدومه دمشق، وذلك عام ألف ومائتين وثمانية وثلاثين:




"هذا ولو أردت أن أذكر عشر معشار ما مدح به ذلك الأستاذ، والقطب الأوحد الفرد الملاذ، لخرجت عن منهج السداد، وتحولت عن الإيجاز الذي هو المراد، وعلى كل فشهرته في العالم كافية، وسيرته المحمودة سنية وافية، وقد أخذ سيدي الوالد عنه، وحصل جل نفعه طريقة وعلماً منه، ولازمه إلى انتهاء أجله، وكان غاية مراده ومنتهى أمله، وكان للسيد المترجم به عناية قوية، ومحبة أبوية، ولما قرب ارتحاله رضي الله عنه من دار الفناء، إلى دار البقاء، وآن أوان إجابة روحه الزكية، لأمر ربها راضية مرضية، كأن الله تعالى كشف له عن ذلك، فأمر بحفر القبر المبارك، وعين مكانه في الصالحية خارج دمشق الشام، في تل تحت جبل قاسيون مقابل مقام الأربعين، فاستقاموا في حفره ثلاثة أيام، فبعد أن تم الحفر بيوم أو يومين ابتدأه المرض يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر ذي القعدة عام ألف ومائتين واثنين وأربعين. وتوفي ليلة الجمعة رابع عشره بالطاعون، فجمع الله له بين شهادات متعددة:

الطاعون والجمعة والغربة وطلب العلم، ودفن في القبر الذي أمر بحفره. وقد بنى حضرة السلطان الأعظم والخاقان الأفخم السلطان عبد المجيد خان، رحمه الله رحمةً دائمة إلى آخر الزمان، على قبره الشريف بناء جميلاً مشتملاً على قبة على القبر الشريف ومسجداً وعدة مقاصير للمريدين المتجردين، ومطبخاً وبركة عظيمة للماء، وجميع ذلك في محله ظاهر معروف مشهور مقصود للزائرين والواردين. وقد رثاه الفاضل النبيل، جناب الشيخ إسماعيل بقوله:


والمراثي في حقه كثيرة، وهي به حقيقة وجديرة، أضربنا عن ذكرها خوف التطويل، على أن كثرة المدح، وإطالة الشرح في حقه أمر قليل" اهـ
.

ما للجبال الراسيات تميل = ما للبدور يرى بهن أفول
ما للظلام يجر ذيل ردائه = فوق الضياء فلم يقله مقيل
ومخدرات الحر تنثر لؤلؤاً = من دمعها فوق الخدود يسيل
والورق أكثرت النواح مخضباً = كف البطائح دمعها المهمول
والدهر ألبس أهله حلل العنا = وعلا رياض الشام منه ذبول
والحزن قام على منابر حينا = أبداً خطيباً لا يكاد يزول
والأرض ترجف والنوائب أدهمت = والبين يهجم والخطوب تجول
هذا مصاب ليس يحدث مثله = تالله كم دهشت لديه عقول
ماذا بدا في الكون يا أهل النهى = هل مخبر عني الشكوك يزيل
هل كان يوم الصعقة الأولى هل = دهم الورى بالصور إسرافيل
أم زلزلت تلك القيامة وانطوت = حجب الحياة وعاجل التهويل
أفصح لنا عما بدا يا ذا الحجا = فغدا لسان الحال منه يقول
قف وانتبه ما قد بدا فيما استوت = فيه الخلائق عالم وجهول
قد مات كهف العلم سلطان التقى = حبر له المعقول والمنقول
سند السيادة والرياسة للورى = قاصٍ ودانٍ فضله مأمول
صدر المجالس إن بدا فكأنه = النعمان يروي عن عطا ويقول
بحر أفاض على الورى مدراره = فروى العطاش زلاله المعسول
وتفجرت منه ينابيع حلا = منها لوراد الهدى التعليل
بكت العيون على فراقك سيدي = وبكاؤها لك بالدماء قليل
وافى ضياء الدين بدر زمانه = قطب الوجود وللعلا إكليل
عند المليك الحق قد أضحى له = في مقعد الصدق الأجل مقيل
هيهات إن جاد الزمان بمثله = إن الزمان بمثله لبخيل
يا خالداً في حضرة القدس التي = كم طاح دون فنائها مقتول
أدناك ربك منزلاً ترقى به = فلك الشهود وكم بذاك نزول
وأباح روحك حضرة قدسيةً = عند المهيمن ما لها تبديل
وأناخ سحب الفضل تهطل دائماً = بفناء رمسك لا تكاد تزول
ما قال إسماعيل يرثي سيداً = ما للجبال الراسيات تميل
(حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر لعبد الرزاق البيطار - ج1 ص1216 - 1256)

 
  3001683 visitors